في هذه المدينة (غزة) المليئة بالأوجاع، لكل جرحٍ حكاية، يقصّ صاحبها تفاصيلها على من حوله، والأسى في ملامحه، والانكسار يبدو جليًا في صوته، ما قد يدفعك للتساؤل “كيف يُمكن لإنسان من لحمٍ ودم أن يحمل كل هذا الحزن، ويظل صامدًا ينتظر قدره؟!” فما بالكم لو كان صاحب الحكاية قلب طفل!
وفي هذا التقرير تروي لكم قصّة ثلاث طفلات غزيات من عائلة زقوت، استشهدت والدتهن، وشقيقتهن الكبرى خلال حرب الإبادة المتواصلة على القطاع منذ أكثر من 3 شهور، بينما يعيش والدهن وحيدًا في مدينة غزة، يُعاني من مضاعفات إصابته بمرض السرطان.
ففي العاشر من شهر نوفمبر/ تشرين ثاني المنصرم، استهدف القصف الإسرائيلي مدرسة حكومية في مدينة غزة كانت تحتمي فيها عائلة زقوت؛ مما أسفر عن استشهاد العشرات من النازحين فيها، بينهم نسيبة بارود (الأم)، وطفلتها تقى زقوت (14 عامًا)، وإصابة ابنتيها لانا (9 أعوام) وفاطمة (عامان) بجروح وحروق متفاوتة.
“لانا” التي نزحت رفقة خالتها إلى دير البلح وسط قطاع غزة، تُغمض عينيها التي أرهقتهما الدموع، وتستذكر بصوتٍ مرتجف ما جرى معهم في ذلك اليوم: “كان يوم جمعة، وغالبية أفراد عائلة أمي يجلسون في إحدى الغرف الصفية، بعد الصلاة، فجأة سمعنا أصوات انفجارات متتالية، وصرخات وأشلاء تتناثر وركام ينهال فوق رؤوسنا (..) استيقظنا ونحن على أسرّة مشفى الشفاء الطبي”.
والصدمة تعتري ملامحهن الطفولية البريئة، كانت “لانا” وشقيقتيها “جنان” و”فاطمة” ينتظرن والدتهن علّ خوفهن يهدأ قليلًا تخبرنا: “كنّا نتفحص كل عابر إلينا، نبحث ونسأل عن ماما وأختي تقى، ولا مجيب، سوى الصرخات ومشاهد الدم والأشلاء”.
ظل الخوف يأكل قلوبهن الصغيرة، وعيونهن تتلهف وتنتظر أي أمل صغير قادم من ناحية الباب، لكّن القدر كان يحمل شيئًا مختلفًا لهن؛ تقول: “ماما وتقى شهيدتان، جابوهم إلنا مليانين دم وحروق (..) بحياتي ما تخيلت هذا المشهد”.
إلى جانب أمهن وشقيقتهن الكبرى، فقدن الطفلات الثلاث، جدتهن وخالتهن واثنين من أولاد خالهن؛ ما شكّل لديهن صدمة نفسية كبيرة، لا تزال تبعاتها عليهن حتى يومنا هذا.
وتُشير “لانا” إلى أنهم بعد الحادثة وتلقيهن العلاج، اضطروا للذهاب مجددًا إلى مدرسة تابعة لوكالة “أونروا” في مخيم الشاطئ غرب غزة، على أساس أنهم سيجدون الأمان والإيواء فيها، وهناك كان ينتظرهم سيناريو رعبٍ جديد.
“أول مرة أشوف دبابات ويهود مدججين بالأسلحة (..) كان فيلم رعب فوق استيعابنا”، بهذه الكلمات تصف الطفلة “لانا” ما جرى معهم بعد حصارهم لأيام في المدرسة.
وتزيد: “حاصرنا الاحتلال في المدرسة لعدة أيام، ومنعنا من الخروج حتى من الغرفة التي كنّا نحتمي فيها، وخلال هذه المدة لم يتوقف القصف في المنطقة، وكنا شبه منقطعين عمن حولنا”.
وكان يزداد رعب “لانا” وشقيقاتها في الليل، لماذا؟ تُجيبنا: “المنطقة التي حُوصرنا فيها كانت خالية إلا من نحو 700 نازح في المدرسة، ظلام دامس، وأصوات انفجارات وقذائف تُطلق من كل الاتجاهات، والقناصة أمامنا، تقتل كل من يحاول التحرك”.
وبينما كانوا نائمين، وقع اقتحام مفاجئ للمدرسة، وسط إطلاق كثيف لقنابل صوبهم، تبعه نداء من جيش الاحتلال يأمرهم بالنزول إلى الطابق الأرضي، والتمركز في زاويته.
وتتابع “لانا”، أنّ الاحتلال فتشّهم تفتيشًا دقيقًا ومهينًا، قبل أن يعتقل عددًا من الرجال بينهم خالها، وابن خالتها، مشيرة إلى أنّه أطلق النار على رجل مسن أمامهم، وحين حاول نجله إسعافه، تم إطلاق النار عليه هو الآخر.
وبعد أن انتهى الاحتلال من اقتحامه للمدرسة، أمر النازحين فيها بالمشي وفق خطة سيّر وضعها لهم وتحت رقابتهم؛ أوصلتهم إلى شارع الجلاء ومن ثم توجهوا إلى الجنوب، بحسب رواية “لانا”.
فاطمة (آخر العنقود) التي كانت تُحب صوت أمها، وهو يُنادي عليها “فوفو قلب الماما”، تُعاني حاليًا من أزمة نفسية شديدة، جعلتها دائمة الصراخ، والتذمر، كما أنّ سؤالها عنها لم ينقطع!
عن ظروف شقيقتها الصغرى تحكي “لانا”: “منذ استشهاد ماما، تبكي فوفو باستمرار، وتُلّح بالسؤال عنها، وحين تيأس، تطلب أختي تقى، ولا نعرف كيف نشرح لها ما جرى (..) أصلًا كيف لها أن تستوعب الحدث”!
في قلوب الطفلات الثلاث، من الأنين ما يملأ هذا الكون كله وجعًا، حيث فقدن أمهن، بينما يُصارع والدهم المرض لوحده في مدينة غزة؛ نتيجة مضاعفات إصابته بمرض السرطان، وعدم توفر العلاج له.
وتؤكد “لانا” أنّ ظروف والدها الصحيّة والنفسية ازدادت سوءًا في الآونة الأخيرة، وأنّه يتمنى لقائهم ويطلبهم بشكلٍ دائم ممن حوله، موضحةً أنّه كان ملتزمًا بخطة العلاج، متفائلًا بالشفاء، ومعنوياته عالية، أما الآن فقد نخر اليأس قلبه ولا يستطيع الحركة ويفتقد أمي كثيرًا.
وتتساءل بصوتٍ تخنقه الدموع: “شو ذنبنا يصير فينا هيك، ماما استشهدت، وبابا بعيد عنّا؟”، خاتمةً حديثها: “حلمي نضل عايشين ونرجع لبيتنا ونشوف بابا بحال أحسن، وأن ننعم بحضنه، قبل أن يختطفه منا الموت هو الآخر، ونتعافى جميعًا من صدمة الحرب”.